قرار الرئيس دونالد ترامب إخراج الجنود الأميركيين من سوريا من أجل إفساح المجال لهجوم تركي على القوات الكردية الموالية للولايات المتحدة يكرّس سمعة أميركا المتزايدة في الشرق الأوسط باعتبارها «غير جديرة بالثقة»، ولا يمكن التنبؤ بأفعالها، بل وحتى ضعيفة على نحو متزايد.
عدم إمكانية التعويل على الولايات المتحدة هو أول شيء لوحظ من قبل أكبر منتقدي أميركا مثل إيران، ومن منافسيها الرئيسيين مثل روسيا، وحتى من حلفائها مثل إسرائيل. الانطباع بدأ يتشكل خلال ولاية الرئيس باراك أوباما الأولى، عندما تخلت واشنطن، بعد فترة من التردد، عن الرئيس المصري حسني مبارك، ما سمح بعزله بعد احتجاجات شارع ضخمة. فهل كانت تلك طريقة أميركا لإظهار التضامن مع الأصدقاء؟
مثل هذه الأسئلة أصبحت أكثر إلحاحاً عندما وقّع أوباما، إلى جانب خمس قوى دولية أخرى، اتفاقاً نووياً مع إيران. فقد عبّرت إسرائيل عن القلق، وعلى نحو أكثر هدوءاً كذلك فعلت بلدان الخليج العربي. فجميعها خشيت أن يكون ذلك بداية تقارب أميركي- إيراني أوسع يحلّ محل شراكاتهم الطويلة مع الولايات المتحدة.
ومما زاد الطين بلة وصفُ أوباما بلدان الخليج العربي ب«المستفيدة من الوضع دون المساهمة فيه» ومطالبته إياها أن «تتقاسم» الشرق الأوسط مع إيران. وهو ما بدا، بالنسبة لمن وقفوا إلى جانب الولايات المتحدة لعقود، مثل «خيانة».
وبعد انتخابات 2016 الأميركية، أمل شركاء الولايات المتحدة الشرق أوسطيون أن يعمل الرئيس دونالد ترامب على تحسين الأمور. ولكنه بدلاً من ذلك حافظ على عنصر عدم إمكانية التعويل على الولايات المتحدة، وأضاف إليه قدراً كبيراً من عدم إمكانية التنبؤ بأفعالها.
ومن المعروف عن ترامب أنه يجد من المفيد الإبقاء على الأصدقاء والخصوم على حد سواء في حالة ارتباك. والحال أن عدم إمكانية التنبؤ بالأفعال قد يكون جيداً في مجال العقارات. كما أنه قد يكون مفيداً في العلاقات الدولية بالنسبة لدول صغيرة ومثيرة للاضطرابات مثل إيران وكوريا الشمالية اللتين تعتمدان على الفوضى وزعزعة الاستقرار من أجل خدمة أجندتيهما. غير أنه بالنسبة لقوة عالمية تسعى للحفاظ على الاستقرار في منطقة متقلبة مثل الخليج العربي، يُعد عدم إمكانية التنبؤ بالأفعال أمرا هادماً  للذات.

وقد خلصت السعودية وبلدان الخليج العربية إلى أن ترامب ينظر إليهم في المقام الأول كمشترين للسلاح. ولهذا، فإنهم لا يجدون صعوبة في تخيّله يصادق الزعماء الإيرانيين، ويسعى وراء مناسبات لالتقاط الصور وتحقيق انتصارات دبلوماسية صغيرة على حساب الأصدقاء الحقيقيين لواشنطن.
يضاف إلى كل ذلك الشعورُ المتزايد في الشرق الأوسط بأن الولايات المتحدة أخذت تفقد الرغبة في القتال، أو ربما فقدتها. وإذا كان لا أحد يشك في قوة أميركا العسكرية والاقتصادية، فإن هذه الأخيرة أبانت أيضا، في أعقاب حملتين كارثيتين في العراق وأفغانستان، عن إنهاك حربي خطير، وهو ما اتضح بجلاء عندما امتنع الرئيس باراك أوباما عن فرض احترام «الخطر الأحمر»، الذي رسمه بنفسه ضد استخدام أسلحة كيماوية في سوريا. ثم ظهر مرتين أخريين خلال الآونة الأخيرة عندما تجاهل ترامب إسقاط إيران لطائرة أميركية مسيّرة وهجمات جريئة على منشآت نفطية سعودية. ولكن عدم القيام بأي شيء كان واضحاً على غرار التخلي عن الأكراد الأسبوع الماضي، والذين كانوا الحلفاء الرئيسيين في المعركة الأميركية ضد إرهابيي تنظيم «داعش». والآن، يبدو للأصدقاء والخصوم على حد سواء أن الولايات المتحدة فقدت شجاعتها في الشرق الأوسط. فهي ستقاتل دفاعاً عن النفس فقط، وكخيار أخير فقط.
كل هذا يستدعي إلى الذاكرة إخفاق السويس 1956، الذي كان من نتائجه انهيار السلطة البريطانية والفرنسية في الشرق الأوسط، والذي أنذر بفقدان أكبر للقوة العالمية لتينك الدولتين الأوروبيتين، إذ سرعان ما حلّت محلهما الهيمنة الأميركية والسوفيتية.
وبالمقابل، أضعفت الولايات المتحدة سلطتها الخاصة من دون أي مساعدة من أي بلد أو منافس آخر، وهو ما يكرّس صورتها كقوة عالمية باتت أقل موثوقية، وأكثر مزاجية، وأكثر ضعفاً، وخاصة في الشرق الأوسط.
*زميل «معهد دول الخليج العربية في واشنطن»
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»